لماذا التخلّي عن الأحلام؟
يطول الليل على كل حالم بسخاء، كي يحلم أكثر ويخطط ويتخيل، وكما هي الحياة في دورانها لا يمكن عيشها بليل فقط، فلا بد للصبح من الانبثاق، والصبح هي فرصة الحالم ليحوّل الأحلام واقعًا يعيشه، وفي الصبح تظهر المعرقلات والمعوقات، ويمحو النهار خطط الليل باصطدامه مع الواقع الصعب، فليس تحقيق الحلم كالحلم فقط وليس الساعي كالحالم.
بالسؤال المشهور الذي يُطرح على جميع الأطفال "ماذا تريد أن تصبح عندما تكبر؟" تبدأ الأحلام وإن كانت من غير وعي حقيقي بالجواب، وتطير بنا الأجوبة إلى عوالم بعيدة محلقة في فضاء الأمل، طيّارًا معلّمًا طبيبًا… وغيرها، وهذا من طبيعتنا البشرية فما نحن دون أحلامنا وطموحاتنا؟
ومما يثني عزيمة الحالم عن السعي -وهو موضوع هذا المقال-، تفكيره بلحظة الفشل والخوف منه فيؤثر عدم المحاولة على إصابته بسهام الفشل، وما يليه من جروح الانتقاد والتشفّي من المجتمعات المتصيدة للمخطئ، وفي حالة أخرى يكون الحالم متلذذًا بالعيش في الخيال أما السعي ومفهومه وما يتطلبه من صبر ورباطة جأش فلا قدرة له عليه، فهو قليل الحيلة تغنيه صورته المتخيلة على قمة الجبل وهو في درك الوادي.
والحالم المتقدّم مَن لا ينظر للعثرة بكونها علامة فشل، بل كبوة لا تطيح بفرسه، أما الذي يعيش بالحلم فعليه إدراك الجمال في تحقيق الغاية فعلًا فإن كان الخيال بهذا الجمال فكيف سيكون التحقيق؟
والفجوة الهائلة بين متعة الخيال وصعوبة التحقيق، سببٌ واهيٌ للعيش سبهللا والعزوف عن الأحلام والعيش بالواقع كما هو، فمنهم من يبدأ ثم تقف له العقبات من كل حدب وصوب ولا صبر له على تحديها فيركن، ومنهم من يحاول مرة تلو المرة ولا يجد تذليلًا لأي عقبة من أي طرف، ويكون التخلي عن الحلم خلاصهم الوحيد من تراكم الخيبة.
لذلك عليهم الإحاطة بالعقبات قبل البدء للعمل على تجنبها، بدراسة شاملة لكل خطوات المرحلة والتحضّر للتعامل مع المعيقات وإدارتها لتسير وفق مصالحهم أو للخروج بأقل الخسائر.
ومنهم من يركز على الهدف وتحقيقه هو هو بشكله وصورته المخططة فقط، فيعميه هذا عن الاستمتاع برحلة السعي للوصول، وتعليق الآمال على التحقيق فقط لا على طريق التعلّم الطويل في سبيل البلوغ وهذا يثير الإحباط ويحسب نفسه على دكة الفاشلين، وينسى ما أخذ وتعلّم فلا يعاود الكرة ظانًا أن الفشل مصيره المحتوم.
فإذا أقدمت على تحقيق هدف ما، فلا تنسَ الرحلة واستمتع بالدرب وتعلّم من كل عثراتك، أرح عقلك بالتصميم على الإستفادة الكبرى ولو لم يتحقق الهدف، فربما تتغير الرؤية ويتغير الهدف وتحقق أهداف أكبر على حساب واحد أصغر.
وقلة تقدير الإنسان لذاته والتصغير منها ومقارنته مع غيره، تضعف همته وتروج له الاكتفاء بمراقبة الناجحين وتمني ما يحصدون، ولعل هذا من أهم أسباب السخط وعدم الرضا وعدّ كل تقدّم يحرزه بلا جدوى ولا طائل، متناسيًا الدرب الطويل الذي خاضه هؤلاء الناجحين حتى وصلوا لما وصلوا إليه، لأنه لا يرى إلا الإنجاز النهائي المكلل بالتفوق، أما عن عدد مرات الانسحاب ثم المواصلة، ومرات الوقوف بعد الوقوع، فلا خبر له بها وهذا بالتحديد ما يوجب التوقف عن المقارنة مع أي فرد مهما يكن حاله، وتقدير الذات وعدم بخسها والنظر للإنجازات الصغيرة بعين الفخر، لأنها التي تصنَع الإنجازات الكبرى.
ولا ننسى الدور المجتمعي البطل في الإحباط، وتحديد صورة النجاح بقوالب محددة مسبقًا، إذا خرجت عنها قد تتحول إلى أضحوكة مهما بلغ نجاحك وعلمك، فالنظرة الدونية للكثير من المهن جعلت مجتمعاتنا محدودة الفكر فلا نستطيع تسمية أنفسنا بالناجحين إذا لم نكن مهندسين أو أطباء، ولو جنينا من الأرباح أضعاف ما يجنيه مهندس وطبيب ما، ولا تكتفي مجتمعاتنا بعدم التشجيع بل بتحويل كل من يفكّر خارج الصندوق إلى مادة للسخرية، وكأن كسر قوالب لم ينزل الله بها من سلطان جريمة تستحق أن تعاقب عليها بالاستهزاء والاحتقار.
لذلك تخلّى عن مجتمعك، اضرب أفكاره بعرض الحائط، تناسى تجاهل وتقدّم خذ النصيحة ممن يعرف عنه بسداد الرأي، واترك كلام من لا يعرف إلا تكسير المجاديف والإحباط، اختلط بالناجحين والإيجابيين واجعلهم مجتمعك الجديد.
الأسباب في التخلي عن الأحلام كثيرة، ولا يمكن حصرها في مقال، بل تحتاج دراسات علمية ونفسية متخصصة ولكن لا بد لنا من الإشارة لبعض الأسباب وتأثيراتها على نفس الحالم وعمله لتحقيق حلمه، والجدير بالذكر أن معرفة السبب دافع للتعرف على كيفية تجنبه أو التعامل معه بأفضل الوسائل وليس بث للسلبية أو الإحباط، بل من باب الوعي بالشيء والإلمام به، والتخلي عن الأحلام ليس التعامل الصحيح مع هذه الأسباب ولو صعُبت وتعقدت وتاهت بنا الدروب، لا بد للحلم من بقية.
Comments
Post a Comment